فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثالثة: [في قراءة قوله تعالى: {أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله}]:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله} على الواحد، والباقون {مساجد الله} على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو وقوله: {عمارة المسجد الحرام} [التوبة: 19] وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه: الأول: أن يراد المسجد الحرام.
وإنما قيل: مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد.
والثاني: أن يقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ} معناه: ما كان للمشركين أن يعمروا شيئًا من مساجد الله، وإذا كان الأمر كذلك، فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها.
الثالث: قال الفراء: العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم وأما وضع الجمع مكان الواحد ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد.
الرابع: أن المسجد موضع السجود، فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد.

.المسألة الرابعة: [في أن أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين]:

قال الواحدي: دلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد، وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، وهم كفار وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر.
أما قوله تعالى: {شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} قال الزجاج: قوله: {شاهدين} حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها: الأول: وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك كفر، فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني: قال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني إذا قيل له من أنت فيقول: نصراني واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن، وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول.
الثالث: أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك.
الرابع: أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها، وكلما طافوا شوطًا سجدوا للأصنام، فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك.
الخامس: أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
السادس: نقل عن ابن عباس: أنه قال: المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر.
قال: وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال القاضي: هذا الوجه عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته.
أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز.
وأقول: لو قرأ أحد من السلف {شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} من قولك: زيد نفيس وعمرو أنفس منه، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر.
ثم قال: {أولئك حَبِطَتْ أعمالهم} والمراد منه: ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب، وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر، مثل إكرام الوالدين، وبناء الربا طات، وإطعام الجائع، وإكرام الضيف فكل ذلك باطل، لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر.
وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مرارًا فلا نعيده.
ثم قال: {وَفِى النار هُمْ خالدون} وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلدًا في النار من وجهين: الأول: أن قوله: {وَفِى النار هُمْ خالدون} يفيد الحصر، أي هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار، ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر.
الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم، ولو كان هذا الحكم ثابتًا لغير الله لما صح تهديد الكافر به. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}
عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ تَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَارَتُهُ، وَالْكَوْنُ فِيهِ، وَالْآخَرُ: بِبِنَائِهِ وَتَجْدِيدِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اعْتَمَرَ إذَا زَارَ، وَمِنْهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَفُلَانٌ مِنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُضِيِّ إلَيْهَا وَالسُّكُونِ فِيهَا، وَفُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ إذَا أَكْثَرَ غَشَيَانَهُ لَهُ.
فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ مَنْعَ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ بِنَائِهَا وَتُوَلِّي مَصَالِحِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا لِانْتِظَامِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ. اهـ.

.قال السمرقندي:

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}، قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {مساجد} بلفظ الجماعة، وكذلك الثاني يعني: جميع المساجد؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأول {مساجد} بغير ألف والثاني بألف.
وروي عن ابن كثير كلاهما بغير ألف، يعني: المسجد الحرام.
ومن قرأ مساجد أيضًا، يجوز أن يحمل على المسجد الحرام، لأنه يذكر المساجد ويراد به مسجد واحد.
كما قال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، يعني به النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ}، يعني: ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر يعني: لا ثواب لهم بغير إيمان.
{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم}، يعني: بطل ثواب أعمالهم، ويقال: {شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِم} يعني: كلامهم يشهد عليهم بالكفر.
{وَفِى النار هُمْ خالدون}، يعني: يكونون في النار هم خالدين؛ ويقال شاهدين عليهم يوم القيامة، فلا ينفعهم عمارة المسجد بغير إيمان.
وروى أسباط، عن السدي في قوله: {شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} أنه قال: يسأل النصراني ما أنت؟ فيقول: نصراني.
ويسأل اليهودي ما أنت؟ فيقول: يهودي.
ويسأل المشرك ما أنت؟ فيقول: مشرك.
فذلك قوله تعالى: {شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ}.
ويقال: هذه الآية نزلت في شأن العباس حين أُسِر يوم بدر، فأقبل عليه نفر من المهاجرين وعيّروه بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وبقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقال له عليُّ: فهل لكم من المحاسن شيء؟ فقال: نعم، إنا نعمر المسجد الحرام، ونحج الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني، ونفادي الأسير، ونؤمن الخائف، ونقري الضيف؛ فنزل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وَفِى النار هُمْ خالدون}. اهـ.

.قال الثعلبي:

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}
قال ابن عباس: لمّا أُسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليٌّ له القول، فقال العباس: إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، قال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك: العاني، فأنزل الله تعالى رادًّا على العباس {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} يقول: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر، وقرأ ابن السميفع يُعمر بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة، أو يجعلوه عامرًا، ويريد: إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده، فمن كان بالله كافرًا فليس من شأنه أن يعمرها، وقال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
واختلف القراء في قوله: (مساجد الله) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو: مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام}، وقرأ الباقون (مساجد) بالألف على الجمع، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين.
قال الحسن: فإنّما قال (مساجد الله) لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة: إنما يقرأ: مساجد الله وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال عكرمة: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وقال الضحاك ومجاهد: حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد، ألاترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين؟ ويقال للرجل: إنّه لكثير الدر والذمار، وتقول العرب: عليه أخلاق نعل واسمال ثوب.
وأنشدني أبو الجراح العقيلي:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ** وشرذم يضحك مني التواق

يعني: خَلِق.
وقوله: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أراد وهم شاهدون، فلمّا طرحت (وهم) نصبت، وقال الحسن: يقولون: نحن كفار (نشهد) عليهم بكفرهم، وقال السدّي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يُسأل: ما أنت فيقول: نصراني، واليهودي فيقول: يهودي والصابئي، فيقول: صابئي ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك.
وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجًا من بيت الله الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون: إن تغفر اللهم تغفره جمّا، وأي عبد لك لا ألمّا (...) سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلاّ بعدًا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني المسجد الحرام. وفيه وجهان:
أحدهما: ما كان لهم أن يعمروها بالكفر لأن مساجد الله تعالى تعمر بالإيمان.
والثاني: ما كان لهم أن يعمروه بالزيارة له والدخول إليه.
{شَاهِدِينَ عَلَى أنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن فيما يقولونه أو يفعلونه دليل على كفرهم كما يدل عليه إقرارهم، فكأن ذلك منهم هو شهادتهم على أنفسهم، قاله الحسن.
والثاني: يعني شاهدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم، قاله الكلبي.
والثالث: أن النصراني إذا سئل ما أنت؟ قال: نصراني، واليهودي إذا سئل قال: يهودي، وعابد الوثن يقول: مشرك، وكان هؤلاء كفار وإن لم يقروا بالكفر، قاله السدي. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ما كان للمشركين} الآية.
معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديمًا وحديثًا وتغلبًا وظلمًا، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري {مسجد الله} بالإفراد في الموضعين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم {مساجد} بالجمع في الموضعين، وقرأ ابن كثير أيضًا وأبو عمرو {مسجد} بالإفراد في هذا الموضع الأول و{مساجد} بالجمع في الثاني، كأنه ذكر أولًا فيه النازلة ذلك الوقت، ثم عمت المساجد ثانيًا في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجدًا ثم يجمع، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام، وقوله: {شاهدين على أنفسهم بالكفر} إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك، وحكى الطبري عن السدي أنه قال: الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أن نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لم يحفظ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم: {حبطت} أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلًا وهو الذي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم...» الحديث. اهـ.